لا يمكن إنكار، وتجاهل، أن مشاهد الدمار الذي لحق بأحياء في مدن إسرائيلية وفي مدينة تل أبيب جراء الصواريخ الإيرانية تحديداً، والتي غابت خلال تدمير غزة والضاحية الجنوبية لبيروت.. هذه المشاهد، قد لاقت ارتياحاً وترحيباً لدى الكثير من المشاهدين والمواطنين، في لبنان وفي أكثر من منطقة عربية. وهذا ما عكسته التعليقات والمواقف وردود الأفعال، التي ظهرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي أكثر من مكان واتجاه.
لكن في المقابل، لا يمكن إنكار وتجاهل حقيقة أن الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى إيران والاختراقات الأمنية التي تمكنت من تحقيقها، خلال حرب الأيام الـ12 مع دولة الملالي، قد أكدت حقيقة التفوق الإسرائيلي الأمني والعسكري، والاختراق الاستخباري الكبير الذي ظهر في جسم القوى الأمنية الإيرانية.
في مقارنة بسيطة، يظهر أن إسرائيل قد تمكنت من تحقيق ضربات واختراقات في الجسم الأمني والعسكري الإيراني، مشابه بل يزيد عن ما سبق أن سجلته في بيئة وجسم وتنظيم حزب الله في لبنان، عبر المواجهة الأخيرة التي تمت بعد طوفان الأقصى، ومعركة إسناد غزة التي خاضها حزب الله، وأسفرت عن تحقيق وتسجيل ضربتين كبيرتين، في جسم وبنية الحزب من قبل إسرائيل.
الضربة الكبرى والأساسية تمثلت بعملية "البيجر" المروعة والصارخة، والتي شكلت تطوراً وتفوقاً ونجاحاً كبيراً في عمل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على مستوى العمل الأمني، واختراقاً كبيراً غير مسبوق على المستوى التجسسي، سيبقى محل تحليل وتقويم على المستوى العالمي، من الآن وحتى أوقات طويلة، إلى أن يأتي عمل أمنى أخر يتجاوزه ويتفوق عليه.
أما الضربة الثانية الكبرى، فقد تمثلت في تمكن إسرائيل بالتنسيق والتغطية الأميركية، من اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، في قلب الضاحية الجنوبية وفي المكان الحصين الذي كان يقود العمليات العسكرية منه.
ما تعرضت له إيران في الحرب الأخيرة بفداحته، يكاد لا يختلف عما تعرض له حزب الله في لبنان على يد إسرائيل مع اختلاف الأحجام والإمكانيات.
ظهر أن إسرائيل سجلت تفوقاً امنياً، وحققت اختراقاً كبيراً للأجهزة الأمنية الإيرانية، بدليل تمكنها من اغتيال هذا العدد الكبير من القادة العسكريين والأمنيين وعلماء الذرة الإيرانيين، ونخبة العلماء والخبراء في علم التطوير النووي والتخصيب الذري العسكري، ورجال العلم والمعرفة، حيث استهدف قسم كبير منهم في منازلهم أو أماكن عملهم أو على الطرق وفي الشوارع في المدن.
المثير في مسألة المواجهة الأخيرة، هو تمكن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، من تعطيل البرنامج النووي الإيراني، إلى فترة متقدمة وكبيرة، لا يمكن لأحد تقديرها وحسمها من الآن، من دون معطيات ومعلومات صلبة وقوية وأكيدة، لم تتوفر لأحد حتى الآن، وبحاجة إلى وقت ليس بقصير من أجل تحديدها.
في تعداد الخطوات والاختراقات التي تمكنت إسرائيل من تحقيقها خلال المواجهة مع إيران، هناك ما يدعو إلى اعتبار أن إسرائيل قد أطاحت وتفوقت على أغلب الأجهزة الأمنية في إيران، حيث ألحقت فيها وبمراكزها النووية والعسكرية خسائر وأضرار لا يمكن تقديرها حالياً.
في المقابل، فإن إيران يمكنها القول وبقوة، إنها أحبطت أهداف إسرائيل وأميركا، بدليل أن ترامب الفريد من نوعه، قد بدأ المعركة بالطلب من إيران الاستسلام وإيقاف برنامجها النووي نهائياً، وهذا ما لم يتحقق من جانب إيران، التي بقيت تقاتل ظاهرياً وإعلامياً حتى الدقيقة الأخيرة.
وقد كانت مسرحية قصف القاعدة الأميركية في قطر أكبر وأبرز الأدلة، على عقلية ونفسية إيران الاستغلالية والاحترافية في مهنة وصنعة "التلاعب بالعقول"، والتي فضحها وكشفها دونالد ترامب من غير قصد، حين تحدث بصراحة، كاشفاً إن إيران أخبرتنا بمواعيد القصف وأماكنه وأساليبه، بشكل أتاح إخلاء القاعدة وتجنب إراقة الدماء.
لو أن إيران أرادت المواجهة الجدية مع الولايات المتحدة وإسرائيل كما تقول، كان بإمكانها اعتماد خطوات مختلفة في التصعيد، عبر إقفال مضيق هرمز وباب المندب، بالتنسيق مع الحلفاء الحوثيين، أو خوض مواجهة بحرية مع السفن الأميركية المنتشرة في بحار المنطقة، أو قصف القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة، وهي كثيرة ومتعددة. لكن القيادة الإيرانية قررت الاستمرار في لعبة التلطي خلف الأذرع، وادعاء المواجهة الشكلية مع "الشيطان الأكبر"، لكسب المزيد من الأنصار والمؤيدين في المنطقة، على طريقة حزب الله المتحمس والمندفع والمصدق للتضحية الإيرانية دفاعاً عن القضية أو القضايا المحقة لشعوب المنطقة.
ما يدعو للتأكيد على نجاح إيران في مساعيها وأساليبها الخداعية، لاستغلال العقول البسيطة من الأنصار والمؤيدين، هو ما شهده لبنان وبعض ساحات إيران.
ما يدعو للتوقف عنده بانتباه ودهشة مكررة، ليس التفوق الأمني والعسكري الإسرائيلي الظاهر والأكيد، بل حجم التجاهل والنكران وقلة التقدير والتدبير الإيرانية المتعاظمة.
فقد كان رد الفعل الإيراني عبر ما صدر عن أية الله السيد علي خامنئي، واعتباره أن إيران انتصرت على "الكيان الصهيوني الزائف الذي خارت قواه تقريبًا، وسُحق تحت ضربات الجمهوريّة الإسلاميّة"، حسب تعبيره، وقد سبق هذا القول إطلاق إيران احتفالات النصر في شوارع طهران، وهي مسألة تدعو فعلاً للاستغراب والدهشة. إذ كيف وبعد كل هذه الضربات التي تلقتها إيران، والفجوات التي ظهرت، بما فيها تعطيل البرنامج النووي إلى أجل غير معروف، أن تخرج تظاهرات تحتفل بالنصر وتهلل للسلطة والقيادة الحالية القائمة.
وكيف لبلد دُمرت مراكزه وضربت أغلب مواقعه النووية، وقتل عدد كبير من قادته في منازلهم أن يحتفل بالنصر؟!
النصر على من يا أخي؟
الأمر لم يقف عند حدود إيران، بل امتد إلى احتفالات ومظاهر ووقفات مماثلة لحزب الله في لبنان. الذي توجه في بيان إشادة وتفخيم للمرشد الأعلى في إيران، لـ"تحقق هذا النصر الإلهي المؤزّر الذي تجلّى في الضربات الدقيقة والمؤلمة التي وجهتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لكيان العدو الصهيوني، والتي حطمت هالة منظوماته الدفاعية ودكت عمق كيانه المصطنع ضمن عملية "الوعد الصادق 3".. إلخ.
وقد كانت قمة مواقف الشكر والتأبين والتهلليل والتأييد، فيما صدر عن قيادة الحزب على لسان رئيس كتلتها الورع والملتزم، الحاج محمد رعد، الذي اعتبر مثلاً، أن العامل الأول في صنع الانتصار "هو وجود قائد رباني ملهم وشجاع، والعامل الثاني هو القوات المسلحة المقتدرة الشجاعة". مؤكداً ومعتبراً، بأن إيران هي اليوم "قوة ردع إقليمية في المنطقة شاء من شاء وأبى من أبى".
صحيح أن لبنان قد تلقى خلال التجارب الماضية ضربات ونكبات كثيرة وكبيرة ومتعددة، نتيجة سياسة ومواقف إيران الاستغلالية ومواقف حزب الله التابعة والمُستتبعة، لكن ما ظهر ويظهر عبر مواقف وتصرفات قيادة الحزب وإيران في طهران وبيروت، أن المعاناة والمشكلات في لبنان باقية في العمق ومستمرة من دون أية مراجعة أو دراسة للاستفادة من الدروس السابقة، التي جرت وولدت الكوارث والإخفاقات والويلات على لبنان والمنطقة.
ألغت إيران المنتصرة، ومعها حزب الله المنتصر أيضاً، وبالتأكيد! كل أساليب التفكير والتدبير العقلي في مواجهة ما جرى ويجري من مآس ومصائب لحقت بالمواطنين والبلاد.
كان رينيه ديكارت الفيلسوف، وعالم الرياضيات والفيزيائي فرنسي، الملقب بـ"أبي الفلسفة الحديثة"، قد ابتكر مقاربته الشهيرة الملخصة بعبارة "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، للرد على تعطيل العقل والتفكير. لكن كما هو ظاهر، فإن المقولة السائدة المتفق عليها بين طهران وبعض المؤيدين في بيروت تقول: "أنا موجود، إذاً أنا منتصر"، وليس المهم كيف ومن بقي من بعدي.
عارف العبد | المدن