أخبار عاجلة

فن

سامحيه يا فيروز
26-07-2025 | 22:59

                           

مات زياد الرحباني ميتته التاسعة والأخيرة، بعد صراع مع الحياة، ناكثًا بوعده لفيروز بألّا يطعن أمومتها برحيله قبلها.

حين اكتشف عبقريّته مات ميتة أولى. فالعبقريّ يعرف أنّ بلادنا جاحدة وأنّ شعوبنا تريد عباقرة على قياس فهمها.

حين انتبه لإعاقة شقيقه هلي مات ميتة ثانية، إذ فهم أنّ الجسد سجن الروح، واستنتج أنّه مهما حاول بالموسيقى والكلمة أن يحلّق بعيدًا، فسيبقى الجسد مرساة ثقيلة.


حين رحل عاصي مات ميتته الثالثة إذ رأى بأمّ العين أين تدفن العبقريّة وكيف تقبل التعازي بالمبدعين على وقع قذائف الحرب.

حين انفجر دماغ ليال مات ميتة رابعة لأنّه فهم أنّ قدر عائلته مصلوب على خشبَتَي الإبداع والرحيل. 

حين غدر به الحبّ والزواج مات ميتة خامسة إذ اكتشف أنّ الآخر سيبقى آخر ولن يقترب من فكره وعطائه.


حين طعنه ذوو القربى في الخاصرة التي توجعه أي فيروز مات ميتته السادسة، بعد أن تعلّم أنّ الفنّ شيء والأخلاق شيء آخر.

حين مات جوزف صقر مات ميتته السابعة إذ خسر برحيل هذا الفنّان صديقًا وصوتًا لا شبيه له. ونادرًا ما يجتمع هذان العنصران في شخص واحد.


وحين فقد الأمل بلبنان الفكر والثقافة والفنّ ومزّقت روحه أصوات النشاز مات ميتته الثامنة، قبل ان يستسلم اليوم لميتة تاسعة أخيرة.


سامحيه يا فيروز.

فأنت تعرفين أكثر من سواك أن ابنك منذور للرحيل، وأنّ حِمل العبقرية ثقيل. وإذا كان قد جاهد واحتمل وتحمّل وبقي حاملًا تبعاتها فمن إجلك. لكنّه اليوم ما عاد قادرًا على البقاء أكثر فسبقك إلى حيث عاصي وليال اللذين يستقبلانه الآن بفرح سماويّ ليس من طبيعة هذه الحياة.


العباقرة تعساء يا فيروز. وأنت شاهدة على ذلك. ولعلّ العمر الذي وهبك إيّاه زياد كان أطول ممّا توقّعت وأقصر ممّا كنت تتمنّين. 

أشعر بسكينتك الآن على الرغم من سيف الألم. تقولين في نفسك: ها هو أخيرًا قد عرف الحبّ والراحة والرحمة، فلن يغدر به أحد بعد الآن، ولن تتعبه ملاحقات الصحافة ولن يخيّب أمله نسيب أو صديق.

أعرف أنّك كنت تتمنّين له زوجة وأولادًا. لكنّ تعرفينه، وتعرفين أن ما من امرأة ستفهمه مثلك، وأن الأولاد سيّظلمون بأبوّته لهم هو المسكون بالموسيقى والساكن فيها وإليها.


أعرف أنّك كنت تريدينه سندًا دائمًا لريما وهلي، لكنّك في عمق وجدانك كنت تحدسين بأنّ مملكته ليست من هذا العالم. 


أورثتماه أنت وعاصي موهبة فذّة ونادرة فكيف تريدين منه أن يحتمل كونه "زياد" وابن "عاصي" وابن "فيروز"... ثلاثة صلبان من المعاناة والمجد على كتف واحدة. أليس هذا بكثير في عمر واحد.


سامحيه يا فيروز. ليس موت زياد هو الخبر المؤلم بل حياة زياد في هذا البلد هي الحكاية التي كتبها لنا بأصابع تئنّ من الوجع لننسى نحن وجعنا. 


ماري القصّيفي