لم يكن ما جرى في الجلسة النيابية الأخيرة مجرد تعطيلٍ للنصاب، بل تحوّل سياسي في موازين القوى داخل البرلمان اللبناني. فللمرة الأولى منذ عام 2005، يفقد وليد جنبلاط موقعه التاريخي كـ”بيضة القبان”، بعدما نجح النائب وليد البعريني في قلب المعادلة وإسقاط الجلسة التي كانت محسوبة على محور بري–جنبلاط.
من “بيضة القبان” الجنبلاطية إلى الاعتدال الشمالي
منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وانقسام لبنان بين فريقي 14 آذار و8 آذار، استطاع وليد جنبلاط أن يتموضع في المنطقة الرمادية بين الطرفين، مستفيداً من هشاشة التوازنات الداخلية، ليكرّس نفسه لاعباً محورياً يميل حيث تميل المصلحة.
كان يعرف متى يقترب من محور الممانعة، ومتى يعود إلى صفوف السياديين، ومتى يلوّح بورقة “الاعتدال” لتثبيت حضوره كضمانة لأي تسوية. بهذا الأسلوب، صار جنبلاط شريكاً دائماً في الحكومات وممسكاً بمفاتيح القرار البرلماني، فكل كتلة كانت بحاجة إلى صوته لترجيح الكفة.
لكن المشهد تغيّر اليوم. فالجلسة الأخيرة التي دعا إليها الرئيس نبيه بري لم تمر كما خُطّط لها، وسقط النصاب في لحظة كانت فيها كل الحسابات تشير إلى أن الكتلة الجنبلاطية ستؤمّن الغطاء المطلوب. المفاجأة جاءت من الشمال، وتحديداً من النائب وليد البعريني الذي تحوّل إلى بيضة القبان الجديدة، بعدما نجح في التأثير على عدد من نواب كتلة الاعتدال الوطني، ودفعهم إلى مقاطعة الجلسة، ما أفشل انعقادها.
تحالف بري–جنبلاط: من الحرب الأهلية إلى البرلمان
التحالف بين نبيه بري ووليد جنبلاط ليس وليد الساعة، بل يعود إلى سنوات الحرب الأهلية. فالعلاقة بين الرجلين، وإن شابها بعض التباين في المواقف، كانت دوماً محكومة بالمصالح المشتركة وبالتكتيك السياسي الذي يهدف إلى الحفاظ على التوازن داخل النظام.
وفي كل المحطات المفصلية، كان بري يجد في جنبلاط حليفاً مضموناً عند الحاجة، كما كان جنبلاط يستفيد من غطاء بري و”الثنائي الشيعي” لضمان مصالحه السياسية في الجبل والمركز.
لكن ما جرى في الجلسة الأخيرة كشف حدود هذا التحالف. فحين اعتقد بري أن الكتلة الجنبلاطية ستؤمّن له الغطاء العددي، تبيّن أن المفاجأة جاءت من جهة أخرى، وأن الكتلة الشمالية “الاعتدال الوطني” هي من حسمت المعركة عبر غيابها المقصود عن الجلسة.
البعريني: من ممثل عكار إلى صانع التوازن الوطني
ما فعله وليد البعريني لم يكن مجرد موقفٍ شخصي، بل قرار سياسي مدروس يعكس صعود جيل جديد من النواب السنّة الذين لا يدورون في فلك “الوصايات السياسية” ولا ينتمون إلى محور بعينه.
فالبعريني، الذي يحظى بنفوذ واسع داخل كتلة الاعتدال، استطاع أن يفرض إيقاعه على الكتلة وأن يبرهن أن الكلمة لم تعد محصورة بجنبلاط ولا ببري ولا بأي زعيم تقليدي. موقفه هذا وضعه في موقع اللاعب المرجّح في المعادلات النيابية المقبلة، وخصوصاً مع دخول البلاد مرحلة جديدة من إعادة رسم التحالفات.
سقوط الهيمنة القديمة وبروز موازين جديدة
الرسالة الأبرز التي خرجت من الجلسة النيابية الأخيرة هي أن مركز الثقل لم يعد في كليمنصو ولا في عين التينة، بل بدأ يتحرّك نحو الشمال، حيث النواب المستقلون والوسطيون الذين باتوا قادرين على قلب المعادلات.
لقد خسر وليد جنبلاط احتكار دور بيضة القبان الذي عاش عليه لعقود، فيما كسب وليد البعريني موقعاً جديداً يجعله لاعباً حقيقياً في رسم مستقبل الاصطفافات داخل البرلمان.
في السياسة، لا مكان للفراغ، وحين يسقط نفوذ زعيم، يولد آخر.
واليوم، يبدو أن بيضة القبان انتقلت من المختارة إلى فنيدق.