تعود شركة “توتال” الفرنسيّة إلى المياه اللبنانيّة بقرار رسمي.
بالطبع، ليس هناك من إحاطة شاملة كاملة بالخلفيات الإقتصاديّة – التقنيّة، ولا بطابور المستثمرين والمنتفعين، لكن المثير، أن القرار سياسي بإمتياز، فهل تأمّنت له الظروف الملائمة؟
يكتنف الجواب ضباب كثيف.
أولاً: إن الشركة لم تقدم بياناً شفّافاً مقنعاً حول حقيقة ما أنجزته بالبلوك رقم 9، وحجم الكتلة المكتشفة من الغاز والنفط، وما إذا كانت على قيمة تجاريّة عالية، أم دون مستوى الآمال المعقودة على ربح وفير، في ظل تقارير تتحدث عن غياب الشفافيّة، لأن الأخطبوط المخابراتي المتعدّد الأصول والفروع والإتجاهات، قد أمسك بالملف، ولا مصلحة له في كشف الحقائق، ووَضْعِها صريحة بتصرّف اللبنانيّين، قبل التفاهم على خريطة تنفيذيّة واضحة، توزّع “كوتا” المنافع والمصالح، بأنصبة مقبولة من الجميع.
ثانياً: لأن قرار العودة ولد وسط ظروف سياسيّة معقّدة، وفي ظلّ إنتداب أميركيّ مقنّع يتحكّم بمفاصل البلد، ويفسح المجال أمام الإسرائيلي كي يعربد في الأجواء اللبنانيّة، ويمعن قتلاً، وتدميراً وفق مقتضيات مطامعه، تنفيذاً لبنك أهداف مرسومة بدقّة، ومنسّقة بالكامل مع الوصيّ الأميركي المشرف على العناوين، والتفاصيل، وحسن سير التنفيذ!
وتبقى “توتال” شركة فرنسيّة، فهل أتاحت إدارة الرئيس دونالد ترامب المجال لفرنسا كي تستثمر في المياه الإقليميّة اللبنانيّة، بصورة مطلقة، ومن دون قيد أو شرط، أم أن وراء الأكمة، ما وراءها؟
أيّاً يكن الجواب، هناك حقائق تفرض نفسها على أرض الواقع، لا يمكن تغييبها، أو تجاهلها.
فرنسا اليوم، في الموقع الثاني، أو الثالث، من حيث تراتبيّة النفوذ، والتأثير، والحضور على الساحة اللبنانيّة. الأولويّة للولايات المتحدة، ودورها النافذ، وحضورها الطاغي، ومصالحها المتشابكة مع دول وكيانات صاحبة وزن وثقل على مستوى الإقليم.
وتحتلّ “إسرائيل” المرتبة الثانيّة، كونها إحدى أبرز الأدوات التنفيذيّة للمخططات الإستراتيجيّة الأميركيّة في المنطقة، و”الشريك” المطلق الصلاحيّة لتحقيق المطامع والمنافع بالحديد والنار، وبدعم أميركيّ سافر، ومتنوّع المجالات، والإمكانات.
يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون جاهداً إلى توفير بطانة دافئة يستّر بها عريّ الدور الفرنسي في لبنان. ووعد بإنجاز مؤتمرين: الأول لدعم الجيش، والثاني لإعادة الإعمار. لكن الجدول الزمني لا يرصد تواريخ محدّدة، ويعود السبب إلى كثرة المواعيد والإستحقاقات التي يدرجها كلّ من الأميركي والإسرائيلي على الأجندة اللبنانيّة كأولويات.
فاته ـ أو أنه يدرك في العمق ـ بأن ملف دعم الجيش في عهدة الأميركي. هو الممسك بدفتيه. هو الذي يقرّر حجم الدعم، ونوعه، وتوقيته، والأهداف المتوخاة منه.
إغتنم ماكرون فرصة التلاقي مع المملكة العربيّة السعوديّة في قيادة الحملة الدبلوماسيّة على مستوى الأمم المتحدة لقيام الدولة الفلسطينيّة، ضمن إطار “حلّ الدولتين”، وحقّقا نجاحاً معنويّاً كبيراً، إلاّ أن ذلك لم يخوّله أن يرقى إلى مستوى التنسيق مع الرياض لإستضافة مؤتمر دعم الجيش، و”المونة” عليها كي تشكّل الرافعة الأساس لإنجاحه، كون السعوديّة تدرك تماماً الأبعاد، والخلفيات. وتنظر من برجها العالي المتمكّن إلى مجريات الأمور في الشرق الأوسط، والتجاذبات الإقليميّة ـ الدوليّة، وحسابات الربح والخسارة، والموقع المتقدم الذي تحتلّه الإدارة الأميركيّة في معالجة شؤون المنطقة، وشجونها.
بهذا المعنى، لا يمكن للرياض أن تبحر بمركب ماكرون نحو المؤتمر، ما لم تكن متفاهمة مع واشنطن أولاً، ومنسّقة أدوارها مع القوى الأخرى صاحبة الوزن والتأثير.
وما ينطبق على مؤتمر دعم الجيش، ينطبق أيضاً على مؤتمر الدول المانحة لدعم الإعمار، والذي لم يُحدّد مكانه وزمانه بعد، نظراً لكثرة التحديات التي تحاصره من كلّ حدب وصوب.
تربط الإدارة الأميركيّة ورشة الإعمار بسلاسل من الشروط، أبرزها حصر السلاح اللاشرعي في كل لبنان، وتأمين بيئة آمنة إقتصاديّة مستقرة على طول الحدود مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتنفيذ الإصلاحات السياسيّة والماليّة والإقتصاديّة والقضائيّة التي نادى بها خطاب القسم، والبيان الوزاري للحكومة، وتأهيل لبنان للعب الدور المرسوم له وفق المخطط الأميركي للشرق الأوسط الجديد.
وما يزيد من الزبى، أن الشروط الإسرائيليّة تكاد تضاهي ـ وربما تزيد ـ عن الشروط الأميركيّة، والدليل أن آلة العدو تقصف وتدمر أي محاولة تفضي إلى الإعمار، سواء أكانت بادرة فرديّة، أو تجمّعاً للجرّافات والآليات، أو شركات الإسمنت، وهذا ما يترك الكثير من علامات الإستفهام حول مصير الجنوب المدمّر في ميزان لعبة الأمم!
إن عمليّة إنعاش الآمال الإقتصاديّة بعودة “توتال” إلى المياه الإقليميّة اللبنانيّة، لا تكون من خلال “الدعابات” الدعائيّة، بل من خلال حسابات علميّة مدقّقة تكشف العقد، وتحدّد المعوقات والصعوبات على أرض الواقع، وترسم بالمقابل الحلول، وفق الإمكانات المتوافرة، للخروج من المأزق.
لغاية الآن، الطحين اللبناني في المعجن الأميركي، ولا دور فاعلاً للخبّاز الفرنسي في تقريص العجين، وتقميره، إلاّ إذا أذنت واشنطن، وسهّلت تل أبيب، عندئذ يمكن أن يتوافر قرار تنفيذي لبدء ورشة التنقيب!
وتدرك شركة “توتال” حجم الصعوبات والتحديات، ولذلك رهنت نشاطها بمدى زمني يتجاوز الثلاث سنوات للبدء بعملها، ومن الآن وإلى حينه، يخلق الله ما لا تعلمون!
جورج علم | الجريدة