لم يكن لبنان في حاجة إلى تشديد إسرائيل لزنار التهديدات والإنذارات بالعودة إلى قصف بيروت والضاحية الجنوبية غداة “عاصفة” توم برّاك الأخيرة، ولكن هذا الزنار رسم صورة “فائض الضغوط” المتصاعدة والمتدحرجة على لبنان لحضّ سلطاته على انتزاع الفرصة الأخيرة بنفسه لنزع سلاح “حزب الله” قبل فوات الأوان. ومع أن تصعيد التهديدات الإسرائيلية بتكثيف الهجمات جاء على وقع غارة دامية على كفررمان في النبطية مساء السبت أودت بأربعة شهداء وثلاثة جرحى في ما يرفع عدد ضحايا الغارات الاسرائيلية في اسبوع واحد إلى 14، فإن الضغوط الديبلوماسية التصاعدية التي جدّدها الموفد الأميركي توم برّاك على إيقاع قياسي جديد من الفجاجة المباشرة في كلامه المستفيض عن “لبنان الدولة الفاشلة” وجيشه المفتقر إلى القدرات ومسؤوليه الذين شبّههم بـ”الديناصورات القدامى”، وإعلانه أنه “لم يعد هناك وقت أمام لبنان وعليه حصر السلاح سريعاً”، ترددت أصداؤها بقوة في كواليس المسؤولين اللبنانيين الرسميين والسياسيين قاطبة، ولو أن أي رد رسمي على براك لم يصدر ويستبعد صدوره.
ولا تحصر أوساط معنية تفسير “هجمة الضغوط” هذه بالبعد الذي ربطها بكثافة التقارير التي تصدر منذ أيام عن إعادة “حزب الله” بناء قدراته، بل توسّع هذه الأوساط تفسير التصعيد إلى معلومات تفيد بأن شهري تشرين الثاني الحالي وكانون الأول المقبل سيكونان عرضة لارتفاع منسوب الضغوط على لبنان إلى الذروة، لجعله ينجز قبل نهاية السنة “تنظيف” جنوب الليطاني والانتقال فوراً بإجراءات ملموسة موازية إلى شمال الليطاني في تكثيف وتفعيل خطة نزع السلاح بزخم، وإلا فإن شبح توسيع إسرائيل لعملياتها سيحاصر لبنان في أي لحظة.
من هنا، اكتسب الكلام عن الإطار التفاوضي عبر لجنة الميكانيزم وتطعيمها بمدنيين، أهمية ولو أن إسرائيل لم تعلق إطلاقاً بعد على هذا المقترح ولا تظهر اندفاعاً نحو التفاوض قبل حسم مسالة نزع السلاح. ولكن ثمة معطيات مواكبة عن كثب لزيارة مدير المخابرات المصرية العامة حسن رشاد لبيروت تشير إلى أنه حمل بنود مبادرة لم يطلع على تفاصيلها إلا الرؤساء الثلاثة زائد المدير العام للأمن العام اللواء حسن شقير ومدير المخابرات في الجيش العميد أنطوان قهوجي. وفي معلومات “النهار” أن الطرح المصري هو محل نقاش بين المسؤولين في لبنان ويفترض الرد عليه في منتصف الاسبوع الجاري ليسلم إلى رشاد سواء بقدومه إلى بيروت أو تسليمه إياه في القاهرة بواسطة شقير.
أما الساعات الأخيرة، فقد شهدت تسعيراً حاداً في التهديدات الإسرائيلية، وكان أعنفها لوزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الذي اتهم “حزب الله” بـ”اللعب بالنار”، محمّلاً الحكومة اللبنانية والرئيس اللبناني مسؤولية “المماطلة في تنفيذ التزاماتهم” المتعلقة بنزع سلاح الحزب وإخراجه من الجنوب. وأكد أن إسرائيل ستواصل تطبيق سياسة “الحد الأقصى” في ردودها العسكرية، مشدداً على أنها “لن تسمح بأي تهديد يستهدف سكان الشمال”، داعياً السلطات اللبنانية إلى “تحمّل مسؤولياتها الكاملة لضمان الاستقرار ومنع التصعيد”.
وكان كاتس أطلق مساء السبت، تهديدًا جديدًا باستهداف العاصمة اللبنانية بيروت في حال شنّ “حزب الله” أي هجوم يطال أي بلدة في شمال إسرائيل، وقال إن إسرائيل ستتعامل مع أي تهديد، مشيرًا إلى أن المبعوثين الأميركيين أبلغوا الحكومة اللبنانية بذلك. وأضاف أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطاً على بيروت لنزع سلاح حزب الله، مشيراً إلى أن إسرائيل تمنح ذلك فرصة.
وكشف مسؤول إسرائيلي أن “إسرائيل أوصلت رسالة إلى الجانب اللبناني بأنها قد تقصف الضاحية الجنوبية لبيروت مجدداً، إذا لم ينزع سلاح حزب الله”. ونقلت عنه محطة “العربية الحدث” قوله: “لن نسمح بإعادة بناء خط القرى اللبنانية المباشر على الحدود الشمالية”. وأكد أن مصر دخلت على خط الوساطة من أجل منع التصعيد على الجبهة اللبنانية.
وفي ترددات داخلية للتدهور الحاصل، شدّد رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير جعجع على أن “لا خلاص للبلاد من تدهور الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه سوى قرار حازم بحل كل التنظيمات العسكريّة والأمنيّة غير الشرعيّة، وأي أمور أخرى، على غرار البحث في ضم لبنانيين مدنيين إلى لجنة “الميكانيزم”، يمثل مخاطرة بأن يتحوّل إلى إضاعة زمنٍ ثمينٍ على بلد يئنّ تحت وطأة انعدام الاستقرار وتتربّص به في الأفق أخطار جديّة وكبيرة”.
وأشار إلى أن “المطلوب في الوقت الراهن هو القيام بما يلي: تثبيت وقف دائم للأعمال العدائية، إخراج القوات الإسرائيلية من أرضنا فعليًا، استكمال عملية ترسيم الحدود البرية والبحرية، إطلاق برنامجٍ عاجل لإعادة الإعمار، وإطلاق نهضة اقتصادية تضمن عيشًا كريمًا للمواطنين. وهذا كلّه مدخله الوحيد هو حصر السلاح بيد الدولة ولا مدخل آخر له. ففي أزمنة الخطر المحدق كالتي تمرّ بها البلاد اليوم، الحلول لا تصنعها “الترتيبات الشكلية” بل القرارات الواضحة والحاسمة والشجاعة”.
ووسط الحديث عن الوساطة المصرية، جرى أمس تبادل توقيع 15 مذكرة تفاهم واتفاق بين لبنان ومصر خلال زيارة رئيس الحكومة نواف سلام للقاهرة مع وفد وزاري. وعقد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع الرئيس سلام اثر انتهاء المحادثات بينهما، وأعلن سلام “أننا ناقشنا ملفات تمس جوهر حياة مواطنينا ووقعنا عدداً من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تجسد التعاون، ويقدر لبنان عالياً دور مصر في دعم الاستقرار الاقليمي، وفي الدفاع عن القضايا العربية وفي السعي لترسيخ الحلول السلمية. مصر كانت دائما إلى جانب لبنان”.
من جهته، لفت رئيس مجلس الوزراء المصري إلى أن “اجتماعات اللجنة العليا المشتركة بين مصر ولبنان انعقدت بعد مرور 6 سنوات من انعقاد الدورة التاسعة في بيروت، وتم التوقيع على 15 مذكرة تفاهم بين البلدين”، وأعلن أنه “تم الاتفاق على زيارة مرتقبة لبيروت بصحبة عدد من الوزراء الشهر المقبل، موضحاً أن حجم التبادل التجاري مليار دولار بين البلدين حتى عام 2024.
وأكد أن هناك “توجيهات من الرئيس عبد الفتاح السيسي لتقديم كل أشكال الدعم للبنان خلال الفترة المقبلة”، مشدداً على” دعم كل ما تقوم به الحكومة اللبنانية للحفاظ على أمن لبنان”، داعيًا الجيش الإسرائيليّ إلى الانسحاب من النقاط الخمس المحتلة في جنوب لبنان.